
_أنا كلمتك بالحسنى لكن أنت زوّتها أوي...لو أنت مش عملت اللي قولتلك عليه يبقى أنتَ لا ابني ولا أعرفك!
توقف يونس، وشيء ما انكسر داخله. التفت إليها ببطء، عينيه دامعتان وقلبه يحترق من كلماتها، قبل أن يهز رأسه ساخرًا…تصطحبها تلك الابتسامة حزينة التى ترتسم على وجهه بينما الدموع على وشك الانهيار:
_يعني يا ماما كل مشكلتك أن يكون عندي عيال... طيب أنا عايزه أعرفك حاجه(صوته ارتجف، وكلماته خرجت ثقيلة كأنها تسقط حجارة من صدره) ماما... أ.. أنا مش ينفع أجبلك أحفاد؛...لأني عندي مشكله...وهي أن أنا مش بخلف....
قالها كمن أطلق رصاصة على نفسه، ثم لم ينتظر رد فعل أحد. خرج مسرعًا، يهرب من أي نظرة… فهو لا يحتمل نظرات الشفقة.
خيم الصمت على المكان… والدهشة معلّقة في الهواء.
تاركًا تلك الغارقة في صدمتها، لتبتلع هناء ريقها بصعوبة،وصوتها يتهدج وهي تهمس وتنظر لوالدة يونس:
_مم.. ممكن "يونس" بيقول كده علشان يهرب من كلامك!
لكن والدة يونس لم ترد… كأنها فقدت السمع والبصر معًا، قدماها تحركانها لا إراديًا نحو غرفتها. دخلت وأغلقت الباب خلفها بقوة… كأنها تهرب من العالم كله، لكن كلمات ابنها ظلت تتردد في أذنيها كالجرس.
في الجهة الأخرى…
كانت ريماس جالسة أمام التلفاز، عيناها شاردة، حتى سمعت صوت المفتاح بالباب. التفتت سريعًا، وما إن رأت يونس يدخل، حتى ارتجف قلبها.
_"يونس"...(وما أن وقعت عينيها عليه وجدت ملامحه المرهقة… عينان حمراوان، ذابلتان، كأنهما غرقتا في بحرٍ من الدموع. انتفضت واقفة، وهرولت نحوه بفزع) "ي..يونس" ايه اللي حصل...مالك؟!
لكنه لم يرفع نظره إليها… ظل محدقًا في الأرض، كأن الحزن يثقل جفونه. وقبل أن تكرر سؤالها، فوجئت به يُلقي بجسده بين ذراعيها.
تجمدت لحظة، ثم أسرعت تحتضنه بقوة، يديها ترتجفان وهي تربت على ظهره بحنان:
_ايه اللي حصل؟!
رفع يونس نظره إليها ببطء، عيناه دامعتان، وصوته يخرج متقطعًا كأن كل كلمة حجر يجرحه من الداخل:
_أنا قولت لماما على الحقيقة!
تسمرت ريماس مكانها، واتسعت حدقتاها من الصدمة:
_ليه عملت كده؟!
أغمض عينيه بقوة، كأنما يحاول حبس دموعه، ثم أخذ نفسًا عميقًا مثقلاً بالضيق:
_كان لازم يعرفوا… أنا مبقتش قادر أتحمّل أخبي أكتر من كده! السر ده بيقتلني كل يوم… وأنا مش ضعيف علشان أعيش حياتي مستخبي ورا الكذبة دي.
🥰✨🖋بقلم شروق فتحي🖋✨🥰
وضعت ريماس يدها على كتف يونس بحنان، صوتها يرتجف باللوم:
_مكنش لازم!
لكن الأيام لم تمهلهما كثيرًا…
ذات مساء، جلست ريماس في غرفتها حين اهتز هاتفها فجأة. أسرعت تلتقطه، وعيناها تلمعان بالقلق، وعندما أجابت وجدتها صوتها مرتجف ويظهر عليه الأرتجاف:
_يا ماما في ايه...مش فاهمه حاجه؟!
جاءها صوت والدتها، متقطعًا، مرتجفًا، وكأنها تبكي:
_أختك "زينة" في المستشفي...ودكتور قال هتعمل نفس العملية اللي عملتيها!
تجمدت ريماس في مكانها، حدقتاها اتسعتا من هول الصدمة، ويدها ترتجف وهي ممسكة بالهاتف:
_أنتِ بتقولي ايه يا ماما...إزاى؟! طيب أنا جاية مسافة السكة!
في الجهة الأخرى…
كانت سِهام تجلس أمام المبخرة، يكسو وجهها ابتسامة شريرة تفيض بالخبث. نظرت إلى "عجفاء" التي تلقي بيدها المزيد من الأعشاب في النار، فتتصاعد سحب الدخان الكثيف.
سِهام بابتسامة ماكرة:
_بس يا ست "عجفاء" مش كده زودنا الجرعة؟!
قهقهت "عجفاء"، ووجهها يزداد قبحًا تحت ظل الدخان:
_مش زودنا! داحنا مهدين الدنيا خالص!
بادلتها سِهام النظرة ذاتها، والشر يتطاير من عينيها:
_يبقى اللي أنتِ شايفة يا ست "عجفاء"!
في الجهة الأخرى…
وصلت ريماس إلى المشفى مسرعة، وما إن رأت شقيقتها "زينة" حتى ارتمت بين ذراعيها، واحتضنتها بقوة، وعيناها تلمعان بالدموع.
همست بصوتٍ حنون مرتجف:
_مش تخافي يا حبيبتى كل حاجه هتعدى على خير إن شاء الله...وهي العملية كانت ضرورية أوي؟!
أجابت زينة وهي تبكي في حضنها:
_لأ الدكتور قال لازم...ومينفعش نتاخر أكتر من كده!
ربّتت ريماس على ظهرها بحنان، تحاول أن تخفي ارتجاف قلبها:
_خلاص لو هيكون ده الأفضل...وأنتِ الحمدلله عندك "عادل" و "لينا".
دخلت زينة إلى غرفة العمليات، تاركة قلوبهم معلقة بين الأمل والخوف. جلسوا في صالة الانتظار، يترقبون عقارب الساعة وكأنها لا تتحرك… كل دقيقة كانت كالساعات.
وأخيرًا…
انفتح الباب وخرج الطبيب، وعلى وجهه ابتسامة أراحت صدورهم:
_الحمد لله… العملية نجحت.
لتنهمر الدموع من أعين والدة ريماس بسعادة حامدة ربها، بينما ريماس ضمّت يديها إلى صدرها شاكرة الله، وقلبها يلهج بالدعاء أن يمر كل شيء على خير.
كانوا جالسين في الغرفة، عيونهم لا تفارق بابها، منتظرين زينة حتى تستفيق من المخدر. الصمت يسيطر، والقلوب معلّقة.
التفتت والدة ريماس فجأة نحوها، وكأنها تذكرت شيئًا غاب عن بالها:
_"ريماس"... فين" يونس"؟! مش جه معاكي ليه؟!
تلعثمت ريماس لحظة، ثم رفعت يدها إلى خلف رأسها بتوتر، كأنها تبحث عن مخرج:
_أنا نزلت من غير ما أقولهُ...وهو كان نايم علشان شغله...فمش لاحقت أصحى وكنت بجرى!
رمقتها والدتها بنظرة مليئة بالتفهم، ثم هزت رأسها ببطء، وما هي إلا دقائق قليلة، حتى فتح الباب، وظهر الممرضون يدفعون السرير، وعليه زينة ما تزال تحت تأثير المخدر، ملامحها باهتة لكنها آمنة. ارتفعت أنفاس الجميع بالارتياح، والدموع ترقرقت في عيونهم وهم يرونها بخير.
أقبلوا عليها جميعًا، عيونهم متشبثة بملامحها وكأنهم لا يصدقون أنها بخير. قلوبهم هدأت أخيرًا بعد خوفٍ طويل، والدموع تلمع في العيون لكنها دموع راحة هذه المرة.
اقتربت ريماس وجلست بجوارها، والابتسامته تملئها الحب:
_حمد لله على سلامتك يا حبيبتي… إيه القمر ده؟!
رفعت زينة جفونها الثقيلة بصعوبة، عيناها باهتتان لكنها تحملان بداخلها ابتسامة دفينة. مدت يدها المرتجفة وأمسكت يد ريماس بإرهاق، وضغطت عليها بخفة، كأنها تقول دون كلمات:
_ربنا يخليكي ليا!
ارتسمت ابتسامة ضعيفة على شفتيها، قبل أن تغمض عينيها من جديد، مستسلمة لراحة ما بعد الألم.
جاء الطبيب ليطمئنهم بابتسامة هادئة:
_الحمد لله… حالتها مستقرة، وتقدر تخرج الصبح إن شاء الله.
لتستكين الراحة في قلوبهم، ويعود الهدوء ليغمرهم بعد يوم ثقيل، قضوا ليلتهم في صمت مطمئن، إلى أن عاد كلٌ منهم لمنزلهُ
دخلت ريماس بيتها مرهقة، وابتسامة شاحبة ما تزال عالقة على وجهها بعد الاطمئنان على أختها. لكنها ما إن فتحت الباب، حتى وجدت يونس جالسًا في الصالة، ينتظرها. كان وجهه متجهمًا، وصوته حين نطق كالسهم البارد:
_كنتي فين؟!
تجمدت ريماس مكانها، قلبها ارتجف من حدة نبرته. لم تعهده هكذا من قبل… نبرته جافة، غاضبة، تخفي خلفها شيئًا أثقل من مجرد سؤال.