
حد تاني يا حلا؟
- في واحدة بس مش عارفة راحت فين، ممكن تكون مشيت.
تنهد باستسلام وأشار لفتاة مكتب الإستقبال بالرحيل، لقد خاب أمله كان يعتقد أن هناك منهن من ستكون معلمة جيدة، هز رأسه بيأس وأخذ يبحث عن نشاطٍ جديد ليقوم من خلاله بمساعدة الطلاب دون أن يُدركوا ولكن لا يوجد أي شيء يُلهمه بخصوص ذلك الأمر، تنهد بعمق والتفت وهو جالس على كرسيه يُنظر للحائط أمامه بشرود بسبب تفكيره في ابنته وخاصة أنها في عُمر المراهقة .. يشعر أنه في تحدٍ صعب معها .. كيف سيقوم بتقويم سلوكها؟ وخاصة أن صلة التفاهم بينهما شِبه منعدمة! تُمسك الهاتف طوال الليل؛ أما في وقت النهار تكون نائمة دائمًا هكذا هي حياتها اليومية في الأجازات أما بالنسبة لحياتها في فترة الفصل الدراسي تستيقظ بصعوبة في الصباح تكون نائمة في الفصل أثناء دروسها! لا تقوم بالمذاكرة أو تقوم بالتثميل أنها تُذاكر والدليل على ذلك بالطبع درجاتها السيئة في العام الماضي! لقد حاول كثيرًا فعل أي شيء ولكنه دائما ما يفشل، يحتاج لطريقة أخرى أو خطةً أخر ولكن مدروسة .. انتبه على صوت طرقات على باب غرفة مكتبه تحدث وهو على نفس وضعه:
- اتفضل.
دخلت المكتب بهدوء وهي تحتضن الملف الذي يحتوي على أوراقها الخاصة بالجامعة وأيضًا خبراتها المهنية على مدار السنوات السابقة ..
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التفت يطالع الفتاة التي دخلت المكتب للتو .. كانت فتاة متوسطة الطول يبدو أنها في بداية الثلاثينيات ذات ملامح هادئة ترتدي ثيابًا واسعة وخِمَارٌ قصيرٌ بعض الشيء .. مظهرها الخارجي مُحتشِم.
أردف فؤاد بهدوء:
- وعليكم السلام.
عقِدَت كوثر حاجبيها وهي تطالعه واختفت ابتسامتها وتحولت معالم فؤاد للاستفسار وهو يطالع ملامحها تلك..
أردفت بتكرار:
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فؤاد بتعجب:
- أنا رديت على فكرة.
كوثر بتلقائية كأنها تتحدث مع أحد أصدقائها:
- بس أنا مش هكتفي بكلمة وعليكم السلام بس! أنا عايزة الرد كاملًا..
ظل يطالعها بعدم فهم لبعض الوقت ثم أردف:
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ابتسمت بمرح وأردفت:
- أكيد حضرتك مستغربني دلوقتي بسبب موضوع السلام، بس أنا هقولك غرضي إيه وتعالي ناخدها بالعقل .. لو حضرتك أخدت بالك في الفترة الأخيرة دي قلت البركة في البيوت وفي الفلوس وفي الأكل .. وكمان المصائب يُعتبر كترت ومن أهم الأسباب طبعا هو إن الناس باقت تقول السلام عليكم بس ويمكن كمان بيلخصوها وبيقولوا سلاموز أو الحاجات العجيبة اللي بيقولوها دي .. أكيد طبعا السلام عليكم هو سلامنا الأساسي كمسلمين بس أنا لما بقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فأنا كده بدعي إن ربنا يرحم الموجودين في المكان ويباركلهم في اللي موجود معاهم سواء الصحة والمال .. وبعدين خلينا نمشي بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال " من قالَ السَّلامُ عليكُم كُتِبَ لَه عشرُ حسناتٍ ، ومن قالَ : السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللَّهِ ، كُتِبَ لَه عشرونَ حسنةً ، ومن قالَ : السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللَّهِ وبرَكاتُه كُتِبَ لَه ثلاثونَ حَسنةً" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعشان كده، حابة إن اللي يقول السلام أو يرده يكون بالكامل عشان ياخد حسنات كتير .. ليه بقا؟ هقولك ليه؟
تحركت أمامه ذهابًا وإيابا وهي تتحدث وتشرح ماببالها ..
- انتشرت الذنوب في الفترة الأخيرة من غير ماننتبه إننا بنذنب وناس كتير تاهت ونسيت الطريق الصح والأغلب مشي في طريق المعاصي لإننا في فتنة كبيرة ربنا يخرجنا منها على خير ويعافينا ويعف عنا .. بس في حاجات بسيطة نقدر نعملها في يومنا نحوِش منها حسنات كتييييير بحيث تساعد برده في إنقاذنا .. يعني مثلا تقدر تقول الأذكار وانت في المواصلات؟ الأذكار دي في حد ذاتها هتديك عدد مهول من الحسنات وكمان كل مكان إنت هتروحه هتقول في الأذكار هيشهدلك يوم القيامة... فهمتني؟
نظرت إليه تطالعه تنتظره أن يتحدث ولكنه كان يطالعها بصمت فقط دون أن يقول كلمة واحدة..
استأنفت بتوضيح:
- خليني أقولك مثال تاني .. تقدر وانت في عز الضيقة إنك تخرج صدقة حتى لو مبلغ بسيط جدا ده بيعود عليك بإيه بقا؟ هقولك .. بركة في الصحة والمال .. عشان كده الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
"داوو مرضاكم بالصدقة."
وكمان حديث رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ.
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
صمتت تنتظر منه ردة فعل ولكنه كان ينظر إليها دون مُقاطعه..
- حضرتك معايا؟
خرج من شروده وانتبه إليها..
- نعم؟
عقِدَت حاجبيها وتساءلت:
- فهمتني؟
ابتسم وأردف:
- فهمتك طبعا، شكرا يا....
قدمت له ملفها بيدها بابتسامة وثقة وهي تتحدث:
- إسمي أستاذة كوثر.
طالعها بتعجب لعدة ثوانٍ ثم أردف:
- إنتي المُدرسة الجديدة؟؟
حمحمت وأردفت بثقة:
- فيما سيكون طبعًا.
طالعها فؤاد قليلًا ثم عاد ينظُر للملف الذي بيده يرى خبراتها في العمل ولكنه لم يأخذ ثوانٍ لأنه لم يقرأ أي شيء .. ثم عاد ينظر إليها مرة أخرى..
- ممكن تتفضلي.
أشار لها بالجلوس وجلست بهدوء ..
- انتي اشتغلتي في حضانات مشتغلتيش في مدارس قبل كده؟
تحدثت بابتسامة:
- قولت أغير نشاطي شوية، وده طبعا بعد ماصليت إستخارة يمكن يكون في ناس محتاجاني في مكان تاني غير الحضانات وكل واحد بياخد رزقه.
ظل يُطالعها بابتسامة وهي تتحدث هكذا..
ثم عاد ينظر إلى بياناتها الشخصية:
- اتنين وتلاتين سنة .. آنسة!
ثم رفع رأسه يطالعها مرة أخرى ..
- هل البيانات دي مظبوطة؟ حدثتيها يعني؟
- اه طبعا.
صمت قليلًا ثم ابتسم:
- تمام، أنا خلاص موافق على تعيينك.
كوثر بتعجب:
- بجد؟!
هز رأسه بابتسامة يؤكد ما قاله..
أردفت بتنهيدة وارتياح:
- الحمدلله .. هقدر أبدأ إمتى؟
طالعها بتفكير ثم أردف:
- من رأيي النهاردة؟ في مُدَرِسَة حصلها ظرف ومش هتقدر تيجي الفترة دي فكنت محتاجِك تِسدِّي مكانها شويه، وخاصة إنها مُدرسة عربي يعني نفس التَخَصُص بتاعك.
- تمام مفيش مشكلة.
وضع ملف أوراقها بداخل أحد أدراج مكتبه ثم رفع رأسه ووجدها مازالت أمامه وتساءل بحيرة:
- مخرجتيش ليه؟
- أنا معرفش أعمل إيه؟ يعني أعرف منين مواعيدها؟ الفصول اللي بتدرسلها؟ كده يعني.
- تقدري تعرفي التفاصيل دي من مدام بَنِين هتلاقيها في مكتب شئون الطلبة، يعني لو مشيتي شويه بعد ماتخرجي من هنا هتلاقي المكتب، في خلال ساعة أو ساعتين مكتبك الجديد هيكون جاهز.
هزت رأسها ثم خرجت بحماس من المكتب تحت أعين فؤاد المُبتسِم لطريقتها تلك وأسلوبها في الحديث! على الرغم من أنها تحدثت عن شيءٍ واحدٍ فقط إلا أن حديثها الطويل ذلك كان مٌمتع ولم يمِل أبدًا منه .. تنهد بارتياح وشعر بالراحة والسكينة والهدوء بعد مقابلته لها .. وتمنى من الله أن تكون المُعلمة كوثر سببًا في تغيير ابنته للأفضل.
ظلت كوثر تبحث عن مدام بنين حتى وجدتها في مكتب يوجد أمامه لوحة كتابية صغيرة مكتوب عليها مكتب مدام بنين .. كانت سيدة في عقدها الرابع ترتدي عدساتٍ زجاجية وشعرها أسود به بعض الخصلات البيضاء ..
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رفعت مدام بنين رأسها وطالعتها من رأسها لأخمص قدمها ثم تحدثت:
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. اتفضلي أقدر أساعدك في حاجة؟
ابتسمت كوثر باتساع لأنها ردت السلام كاملًا ثم تحدثت:
- أنا أستاذة كوثر لسه خارجة من مكتب .. ممممم... مش عارفة إسمه بس هو المدير كنت في مكتب المدير وقالي أجي لحضرتك تعرفيني تفاصيل الشغل قبل ما أحضر الحصص.
اتفضلي أقعدي طيب
يتبع